لكل من شاهد مسلسل الندم
القصة بين عروة و هناء هي مقتبسة من قصة حقيقية لكاتب المسلسل “حسن سامي يوسف” ولكن قام ببعض التغيرات في القصة كما أوضح في منشور له نشره سنة 2019 في صفحته الرسمية قائلا :
“”بعضُ المسكوتِ عنه في قِصّتي مع هناء..
( ردّاً على القليل من الأسئلة الكثيرة التي تصلني حول هذا الموضوع )..
الليل مع هناء..
ليلةٌ قمراءُ من ربيع سنة 1974..
كنتُ حديث التخرج من معهد السينما العالي لعموم الاتحاد السوفياتي في موسكو ( vgik )، وحديث العودة إلى دمشق ( قبل تسعة شهورٍ تقريباً ) أحمل درجة ماجستير في الفنون. التقيتُ البنتَ أول مرّة في منزل أحد الأصدقاء المشتركين، تماماً كما جاء في رواية عتبة الألم، وكذلك في مسلسل الندم. عشتُ معها قصة حبٍ دامت ثمانية شهور، قبل أن تختفي البنتُ من حياتيَ فجأة، بل فجأةً تماماً. تزوجتْ إلى رجلٍ غريبٍ بالكاد تعرفه، ورحلتْ عن سوريا لتعيش معه في سويسرا، كما ورد في الرواية. ولم يكن بيني وبينها زواجٌ كما جاء في مسلسل الندم ( الزواج ومرض القلب والخيانة لا علاقة لها بالواقع ولا بالرواية أيضاً. أخذتُ هذه الأحداث من قصة لي عنوانُها: سبعُ دقائق إلى منتصف الليل. قصةٌ غير منشورة، فأنا أكتب كثيراً، وأمزق كثيراً، وأنشر قليلاً ولست نادماً على هذا الأمر، مع أنني بلا شكّ أشعر بالندم تجاه بعض الأشياء التي صنعتُها في حياتي، شأني شأنُ أغلبية البشر، إنْ لم أقل جميعهم.. الآن، وأنا أقف على رصيف العُمْر، في خريف العُمْر، أعترف بأنّ ما أنا نادمٌ عليه بحق، وبشدّة، هو أنني صرفتُ هذا العُمْرَ في الثقافة، وليس في الفيزياء التي كنت أعشقها في صباي. كيف جرت الأمور على هذا النحو؟ لست أدري. لعلّ المسألةَ كلّها لم تكن إلّا مصادفةً ما، وعلى الأرجح أنها كانت مصادفةً غبيّة. يبدو لي أحياناً أنّ الحياة جميعَها ليست إلّا مصادفة غبيّة ). غير أنّ مسلسل الندم لم يجانب الحقيقة بخصوص المرض، فقد ماتت هناءُ مريضةً، لكنْ بالسرطان، وليس بالقلب. ماتت في سويسرا، ودُفنتْ هناك. ما لم أقله في الرواية هو أنني التقيتُ هناءَ وهيَ في المرض. التقيتها في دمشق. ونَزَلَ بي وبها، غداةَ التقينا، حنينٌ إلى تلك الليلة الربيعية التي كانت قد صارتْ بعيدةً قليلا، الليلة التي قضيناها بطولِها متسكعيْن في شوارعِ دمشقَ البهيجة.. كان الوقت صيفاً. خرجنا إلى الطريق في المساء. اشتريتُ للمرأة المريضة هديةً بسيطة، صغيرة، رمزية، لا يبلغ ثمنُها أكثرَ من خمس ليرات سورية- دولار أمريكي واحد ( كانت هذه الهدية تستحق فصلاً كاملاً من الألم وعتبته، فهي- الهدية – لم تفارق المرأةَ لحظةً واحدة في ما تبقى لها من أيامٍ في الحياة، فقد كانت هناءُ تحتفظ بها تحت الوسادة في الفراش الذي ماتت عليه. قد أكتب يوماً ما شيئاً ما عن هذه الهدية ). كنا في ذلك المساء الصيفيّ كمن يسعى إلى استعادة بهجته الضائعة، ولكنّ جسدَ المرأةِ المنهوكَ من المرض خذلها. خذلها تماماً، فوجدتُني مجبراً على العودة بها، بعد أقلَّ من ساعتين اثنتين، إلى بيت صديقينا لتستريح. لن أتحدث اليومَ عن مشاعري ومشاعرها في ذلك المساء الصيفي. هذا الأمر ما زال مسكوتاً عنه، ولا أعرف إن كان سوف يظل كذلك حتّى القبر. لن أبوح الآن بشيءٍ – إلّا مُكرَهاً – من الكلام الذي قلته لها وقالته لي، أو بشيءٍ ممّا عشناه كلانا من وجعٍ وندمٍ في ذلك اللقاء المبتسَر الذي لم آتِ على ذِكره في عتبة الألم، رغم أنني كنت قد شرعتُ بالكتابة عنه وقد خصّصت له فصلاً مستقلّاً بعنوان: غريزةُ السعادة، ولكنْ غلبني الوجعُ أثناء كتابة ذلك الفصل، غلبني إلى حدّ الغصّة في القصّ الصدريّ، فلم أستطع الاستزادة، وألغيتُ الفصل كلّه من مشروع الكتاب.. وبعد يومين اثنين على تلك المحاولة الفاشلة في استرجاع شيءٍ من سعادتنا الغابرة، عادتْ هناءُ إلى سويسرا. ثم لم أرها بعد ذلك الوقت، ولم أسمع صوتها. كان هذا في صيف عام 1979.
في صيف عام 1981 سافرتُ إلى اليونان من أجل لقاء امرأةٍ بعيدةٍ دخلتْ حياتي قبلَ شهورٍ قليلة ( حياتي العاطفية لم تتوقف عند هناء، فأنا ، للأسف، أو حتى للأسف الشديد، لستُ قيسَ ليلى أو قيسَ لبنى أو كُثَيّرَ عزّة أو عروةَ عفراء أو جميلَ بثينة، فقد وقعتُ في الهوى من بعد هناءَ مع بعضِ النساء، وبعضُ النساء بادلني الهوى بمثله أيضا، ثم تَركتُ وتُركتُ، هجَرتُ وهُجِرتُ، وتزوجت عديد المرّات، وطَلّقتُ أو طُلّقتُ عديد المرّات كذلك. وكما يقول الفرنسيون: سي لا في – هكذا الدّنيا، أو: هكذا الحياة. لست أدري أيهما الصواب، فأنا لا أعرف من اللغة الفرنسية إلّا القليلَ جداً.. مشكلتي الكبيرة مع هناء، بين جميع نساء الحياة، أنّ هذه المرأة كانت غصّة العُمْرِ الوحيدة، وما زالت كذلك إلى اليوم. وبسبب أوجاع هذه الغصّة عملتُ في مسلسل الندم، ومع سبق الإصرار، على الارتقاء بشخصية عروة، التي تشبهني ولا تشبهني في آنٍ معاً، إلى مصافّ أؤلئك العاشقين الكبار، بحيث يصير اسمُه: ” عروةُ هناء “. لكنني، ومع سبق الإصرار أيضاً، وتكريماً لذكرى هناء، جعلتُ من هذه المرأة ضحيةً لِ ” الخيانة ” التي مارسها عروة، فرفعتُ عنه بذلك الفعل غطاءَ قدسية العاشقين الكبار. كنت أظلم عروة، أو بالأصح: كنت أظلم نفسي تكريماً لهناءَ التي كانت قد ظلمتني في الواقع، وظلمتْ نفسها أوّلاً، كما اعترفتْ لي في: غريزة السعادة ). التقيتُ في أثينا بالمخرج السينمائي الراحل نبيل المالح. كان يقوم بعمليات المونتاج لسلسلة أفلامٍ وثائقية صوّرها في دمشق وبعض العواصم العربية، وكان لي مساهمةٌ ( استشارة ) في كتابة عددٍ غير قليلٍ من حلقات تلك السلسلة الطويلة. دعاني لمشاهدة بعض المواد المصوَّرة وسماع رأيي بها. كنت أقيم في أحد فنادق قلب المدينة. وبينما كنت أستعدّ لمغادرة الفندق رنّ جرس الهاتف في غرفتي. كان المتصل إحدى النساء التي تعرف هناء وقصتي معها معرفةً طيّبة، وتزوّدني بأخبار صحّتها في الحين بعد الحين. كانت تحمل إليّ، هذه المرّةَ، خبراً مختصراً، ولكنه شديدُ البأسِ في وجعه على نفسي: ماتت هناء.
الشيء الوحيد الذي أتذكره جيداً عن تلك اللحظة هو أنّ صوتَ المرأةِ المُتصّلة كان يُرجِعُ إليَّ صدى حُزنٍ غيرِ بشريّ.
“””2019
#1001_serie